متى ينزح لبنان – إيران إلى الكِيانيّة اللبنانيّة؟
وجود لبنان في هذه البقعة الجغرافيّة من العالم حتّم عليه تداعيات جيوبوليتيكيّة، وأهمّها اليوم ما يعانيه من مسألة النّزوح التي طرأت نتيجة الأحداث المتسارعة في الجنوب اللبناني. ما أدّى ذلك إلى وجود حالات إنسانيّة -سياسيّة تزامنت مع هذه الحالة. وهذا ما ترك بدوره تداعيات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة قضّت مضاجع اللبنانيين كلّهم. فهل من سبيل ليعود لبنان – إيران إلى حاضنة الكيانيّة اللبنانيّة؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الضائقة الاقتصاديّة التي يعيشها اللبنانيّون اليوم على اختلاف انتماءاتهم المناطقيّة والحضاريّة والاجتماعيّة قد تركت أثرًا سلبيًّا في طبيعة حياتهم، ونمطيّة عيشهم اليوميّة. لكأنّ ذلك كلّه لا يكفيهم حتّى يتمّ فتح جبهة الجنوب مع العدوّ الاسرائيلي ما أدّى إلى موجة نزوح جديدة لكلّ القرى الحدوديّة التي طالت بعض القرى القريبة من مدينة صور. ذلك كلّه وسط عدم قدرة معظم اللبنانيين على تحمّل أعباء هذه الأزمة الماديّة.
إضافةً إلى ذلك كلّه، ارتفعت أمواج الاعتراض السياسي على أداء فريق إيران في لبنان. حيث انقسم المجتمع عموديًّا تمامًا كتلك المرحلة التي بدأت في العام 1969 مع اتّفاق القاهرة. فريق في لبنان يلتزم بمحور إيران وأجنداته في المنطقة يريد الدّخول في الحرب الدّائرة من بابها الواسع، عبر الحدود الجنوبيّة. وفريق لا يريد الحرب انطلاقًا من قواعده القِيَميَّة المبنيّة على الحقّ في الحياة وبناء وطن يضمن له المستقبل ولأولاده وأحفاده من بعده. واللافت في هذا الانقسام أنّ الفريق الذي يريد الحرب لا يتوانى عن استخدام كلّ المصطلحات التخوينيّة الموجودة في معاجم لغات العالم متى أعلن الفريق السيادي رفضه الدّخول في هذه الحرب تحت أيّ ذريعة كانت.
فالنّزوح لم يتم إلى منازل يمتلكها اللبنانيون في بلدات وقرى في جوار العاصمة وضواحيها. ولاسيّما المسيحيّون منهم، حيث معظم أبناء القرى الشيعيّة يمتلكون أماكن سكن في ضاحية بيروت الجنوبيّة. زد على ذلك، مرجعيّات بعضهم السياسيّة تمتلك أموالاً صعبة، ما سمح لهم باستئجار منازل في قضائي الشوف وعاليه بأثمان خياليّة، فاقت الألفي دولار كإيجار شهري للمنزل.
بينما المسيحيّون لجؤوا إلى منازل أقارب لهم، وبعض منهم اتّخذ من بعض الأديرة أو المدارس أو المؤسسات الاجتماعيّة مساكن لهم ريثما ينجلي طيف هذه الأزمة التي طالت وجودهم في الصميم. فالقرى المسيحيّة الحدوديّة هي عصب التنوّع الوجودي للتعدّديّة اللبنانيّة، حيث يُعتبَرُ المسيحيّون في هذه البلدات عنوانًا للصمود الحرّ والتواصل مع الآخر المختلف من النّدّ إلى النّدّ. ناهيك عن اعتماد معظمهم على الانتاج الزراعي من مواسم زيتون وزيت وتبغ وغيرها من الزراعات الموسميّة.
وهذا ما خلق بدوره مجموعة سياسيّة اخترقت المجتمعات الآمنة بعدما جاورتها نتيجة لهربها من أتّون الحرب التي زجّها فريقها السياسي بها، ولو على مضض. فهؤلاء النّاس ضمنًا يرفضون الموت خدمة لمشروع إيران التوسّعي. لكنّ معظمهم حتّى الساعة لا يجرؤ على البوح بذلك. هذه المجموعة فرضت نوعًا من ثقافة الحرب والموت إن كان في المدارس أو الجامعات التي زرعت أبناءها فيها، وإن كان في محيطها السكني. لكنّ بعض المكوّنات الحضاريّة التي تخالف هذا المنطق نجحت بنبذ هذه الجماعات، ما زاد في الطين السياسي بلّة إضافيّة كان المجتمع اللبناني بغنى عنها.
وبدا لافتًا في هذه الظروف صمود رجال الدّين في القرى المسيحيّة، وسهرهم على أمن البلدات، ومَن رفض النّزوح منها. حتّى وصلت الجرأة ببعضهم لإصدار بيانات مكتوبة يرفضون استخدام قراهم كمنصّات لإطلاق صواريخ على العدوّ الإسرائيلي، ليحموا بذلك أبناءهم الصامدين برغم الظروف والمخاطر كلّها. ما أدّى ذلك إلى تلقّيهم تهديدات طالت أفراد عائلاتهم، وطالتهم هم بالشّخصي. لكنّهم رفضوا أن يتركوا أبناء رعاياهم وحيدين في البلدات، بل آثروا الصمود والمقاومة الوجوديّة معهم لتبقى قراهم عنوانًا للمقاومة اللبنانيّة.
وهذه الحالة ظهّرت فئة من رجال الدّين، ولاسيّما المسيحيّين منهم، تتباهى بتاريخ المقاومة الاسلاميّة ودورها في عمليّة تحرير الجنوب والجرود وحمايتهم كمكوّن أقلّويّ وسط اكتساح ديموغرافيّ لبيئة هذا الفريق بالذّات. وهذا ما يستدعي إعادة النّظر في التاريخ المسيحي المقاوم، من قبل بعض رجال الدّين، حيث من المعروف أنّ نبع المقاومة في هذه الأرض هو قاديشيّ، وليس فارسيًّا.
زد على ذلك كلّه أزمة النّزوح السوري التي لم تعد أولويّة في ظلّ هذه الحرب الضروس. لكنّ هذه الأزمة آيلة إلى الانفجار في أيّ لحظة؛ ومَن يدرك كيف ومَن يمكنه أن يوظّفها خدمة لأجندته؟ ولاسيّما أنّ الاثنيّة السوريّة الموجودة اليوم بأكثريّة وسط التركيبة اللبنانيّة لا تنتمي إلى محور المقاومة. وهي مدركة تمام الادراك أنّ هذا المحور قد نجح بسلبها القضيّة الأم، أي قضيّة فلسطين التي تعتبر وجدان الأمّة العربيّة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
أمام هذا الستاتيكو الذي تمّ ضربه، من قبل محور إيران في لبنان، غير آبه بما يريده اللبنانيّون أنفسهم؛ لأنّ جلّ همّهم هو استعادة أحلامهم التوسّعية في أمجاد الأمبراطوريّة الفارسيّة التي ما فتئت عبر السنين على ممارسة التقيّة السياسيّة مع المملكة الداوديّة المضمرَة حتى الساعة، يبقى السبيل الوحيد في تحصين الدّولة اللبنانيّة سياديًّا عبر تطبيق القرارات الدّوليّة. وبما أنّ هؤلاء لا يريدون تطبيق هذه القرارات، ولا يريدون العودة من إيرانهم في لبنان إلى صلب الكيانيّة اللبنانيّة؛ فهل هنالك حلول علميّة لتكريس الكيانيّة اللبنانيّة غير قاعدة لهم لبنانهم ولنا لبناننا؟
مَن يملك الحلّ فليجرؤ ويتقدّم به، أمّا مَن سيكتفي بالتنظير فالوقت يداهمنا، لأنّ لبنان الذي يريده اللبنانيّون قد يتحوّل في أيّ لحظة إلى غزّشيما مشابهة، وعندها لن ينفع البكاء وصريف الأسنان.
متى ينزح لبنان – إيران إلى الكِيانيّة اللبنانيّة؟