… ‎فلتُمطِر سماءُ غزّة إلى الأبد


‎يستعِر الصراع أكثر فأكثر يومًا بعد يوم. ويترقّب العالم العمليّة البرّيّة التي يزمع العدو الاسرائيلي تنفيذها للإطباق على قطاع غزّة بهدف إنهاء حركة حماس والجهاد الاسلامي والفصائل التابعة لهما، على وقع ارتفاع عدد الضحايا لأكثر من 2670 حتى تاريخ كتابة هذه السطور. إضافةً إلى ارتفاع حدّة المواجهات في جنوب لبنان مع منطمة حزب الله والفصائل الفلسطينية الجهاديّة العاملة تحت لواء محور الممانعة.

‎هذا كلّه يدلّ على أنّ ما يحدث في غزّة لن يبقى في غزّة، بل سيتمدّد إلى ما هو أبعد من مواجهة عسكريّة. أعني هنا انتقال المواجهة من الميدان إلى أصقاع العالم كلّه. فهذا ما سبق وحذّرنا منه مرارًا وتكرارًا لأنّه سيتحوّل إلى حرب حضارات بين شرق وغرب، ولن تقتصر على قضيّة نضال شعب ليقرّر مصيره في وطنه، ويحقّق دولته السيّدة الحرّة المستقلّة. والخشية تكمن في أن تكون حماس قد نجحت حيثما فشلت داعش ب إعادة تفجير صراع الحضارات.

‎هذا المبدأ الذي أطلقه الفيلسوف اليهودي صمويل هنتغتون في كتابه “صراع الحضارات” في العام ١٩٩٦، واجهته الفاتيكان في زيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان في أيار من العام ١٩٩٧ ليطلق نظريّة “لبنان الرسالة” لدحض نظريّة هنتغتون. وخفتت هذه النظريّة عمليًّا مع الدخول في زمن العولمة. لتعود وتظهر براثنها في أحداث ١١ أيلول من العام ٢٠٠١ مع تنظيم القاعدة حتى العام ٢٠١٤. وما كادت أن تخبو حتى عادت لتظهر مع ظهور تنظيم داعش في العام ٢٠١٢. وبعد تحجيم التنظيم قامت حركة حماس بضربتها القاضية للعدو الاسرائيلي انطلاقًا من خلفيتها الجهاديّة، وليس من خلفيّة المقاومة الوطنيّة المحقّة فحسب. وهذا ما استغله الاعلام الاسرائيلي لينجح بتحقيق الأهداف الآتية:
‎١- تدعيش المقاومة الفلسطينيّة التي تقودها حركة حماس. وهنا قمّة خطورة ما يحدث.
‎٢- نقل إسرائيل من موقع المعتدي طوال ٧٥ سنة إلى موقع المعتدَى عليه.
‎٣- تأمين الحشد الدولي لحكومة نتانياهو لم يكن ليحلم به إطلاقًا.
‎٤- تأمين طاقة توحيديّة داخليّة سرعان ما ترجمها نتانياهو بحكومة ضمّت معارضي الأمس واليوم بهدف الحفاظ على مستقبل إسرائيل، لأنّ ما حدث في السابع من أكتوبر ضرب الكيان في وجوديّته. حتى صار الهدف: تكون إسرائيل أو لا تكون.
‎٥- تدمير ميداني لأرض غزّة، وقتل المزيد من الفلسطينيين بهدف التطعير العرقي الديموغرافي.
‎٦- ضرب حلّ الدولتين المنبثق عن المبادرة العربيّة في قمّة بيروت ٢٠٠٢.

‎أمّا ما حقّقته حماس ومن ورائها محور الممانعة – ويبقى ذلك رهنًا بتطوّر الأحداث في الميدان – فيتمثّل بالآتي:

‎١- تكبيد العدو الاسرائيلي خسائر بشريّة فادحة؛ ما أدّى إلى ضرب هيبته وهيبة جيشه، وهذا ما سينعكس سلبًا لأجيال وأجيال.
‎٢- وقف اتّفاق التطبيع السعودي الاسرائيلي بعد الاعلان الذي أتى من المملكة على أثر الأحداث.
‎٣- قطع ممرّ ” بهارات” الوافد من بلاد الهند، ما سيعزّز من جديد مشروع طريق الحرير الوافد من الصين عبر إيران فالمتوسّط .
‎٤- دخول إيران كمفاوض قوي لمرحلة ما بعد الحرب في القضيّة العربيّة المركزيّة، في حال لم تنجح إسرائيل بفرض واقع ميداني جديد في القطاع.
‎٥- تفوّق إيران في الصراع العربي – الفارسي ما قد يغيّر وجه المنطقة مذهبيًّا، في حال نجاح مشروع حماس.

لكنّ تطوّر الأحداث هو الذي سيتحكّم في مسار هذه الحرب وتداعياتها. حتى اللحظة الهجوم البرّي على غزّة وقف التنفيذ لأسباب لوجستيّة ليس أكثر أهمّها:

‎١- تأمين صواريخ hell fire التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتّحدة التي تنبئ بأنّها ستستخدمها لتحقيق الأهداف الدقيقة في المرحلة الثانية، أي بعد انتهائها من المرحلة الأولى التدميريّة. وهذا ما لم تتوقّعه حماس، لانّها لم تدرك أنّها أيقظت شيطانًا نائمًا، نتيجة مسكّنات الصفقات الدوليّة التي تجرّعها مرغمًا.
‎٢- عدم ملاءمة العوامل الطبيعيّة لأنّ الطقس الماطر يعيق عمل سلاح الجو الاسرائيلي.
‎٣- ضخامة الأنفاق التي أعدّتها حماس منذ تدمير قسم منها في العام ٢٠١٤ والتي على ما يبدو أنّها ستشكّل عنصر المفاجأة في العمليّة البرّيّة، إلّا إذا تمّ قصفها بقنابل دميّة من طائرات b52 الأميركيّة.
‎٤- تأمين الردع الديبلوماسي لضبط قواعد الاشتباك في جنوب لبنان، على جبهة إسرائيل الشماليّة، الذي برأينا لن يطول، وعندها قد يتحوّل إلى ردع عسكريّ مدمّر للبنان، وقد لا تكون إسرائيل وحدها على هذه الجبهة.
‎٥- دراسة جدّيّة تهديد إيران لإسرائيل من جهة، ودراسة مدى جديّة الولايات المتحدة والغرب في تحويل الردع الديبلوماسي إلى عسكري.

‎في المحصّلة، ما يحدث خطير جدًّا على صعيد المنطقة ككلّ لانّه سيشكّل مفتاحًا للدخول إلى شوقٍ أوسطٍ جديدٍ؛ على ما يبدو لن بكون فيه لثقافة الموت والجهاد والارهاب موطئ قدم. وهذا برأينا يتطلّب الكثير من الحكمة من قبل القادة العرب، ولاسيّما الحداثيّون منهم ليستطيعوا تثبيت وتحقيق الحلّ الوحيد للقضيّة الفلسطينيّة الذي لن يقوم أي مشروع جديد للمنطقة من دون إيجاد حلّ لها على قاعدة حلّ الدولتين. وفي خضمّ حرب الديناصورات هذه، ما على لبنان إلا أن يصلّي لتبقى سماء غزّة ماطرةً إلى الأبد !

Please follow and like us:

… ‎فلتُمطِر سماءُ غزّة إلى الأبد

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to top
Follow by Email
LinkedIn
Share
WhatsApp