ما حدث في غزة وإسرائيل خطف الأجواء السياسية التي كانت أساسًا تسير بوتيرة خجولة، إن من حيث المساعي القطرية في ملف الرئاسة اللبنانية، وإن من حيث المعالجات القاصرة لملف النزوح السوري على لبنان، الذي تحوّل إلى هجرة غير شرعيّة حتى درجة الغزو المنظّم. زد على ذلك الغارة التي حدثت على الكلية الحربية في حمص وارتداداتها التي بقيت أيضًا خجولة. فهل هذه الأحداث كلّها ستدفع إلى انفجار كامل في المنطقة برُمّتها؟ أم سنشهد حالة مشابهة لمرحلة ما بعد حرب تموز في العام ٢٠٠٦؟
• عقل هجمات 11 أيلول نفسه خطّط لغزّة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هجوم حماس على اسرائيل يشبه في استراتيجيّته التخطيطيّة وتكتيكه التنفيذي هجمات ١١ أيلول ٢٠٠١؛ ولا سيّما من حيث عامل المفاجأة، والتخطيط. وذلك لأنّ العقل المخطّط هو نفسه. فلا يمكن تبرير الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني، والتواطؤ الدولي المستمرّ، والسكوت الاقليمي بهدف تسيير مصالح وشؤون الدول، أكثر بعد الظلم الذي طال هذا الشعب. كما لا يمكن تبرير أي عمل انتقامي يؤدي إلى زهق الأرواح من جهتي الحدود. لكن ما لا يمكن إنكاره هو ذلك الفشل الاستخباري الذي لطالما تغنّت به اسرائيل، مقابل قدرات متنامية بشكل رهيب لفصائل لم ترقَ لتصبح جيشًا، لكنّها تعلّمت من تجارب التاريخ في كيفية محاربة الجيوش المنظمة. ولعلّ تجربة عصابات الفيتكونغ في حربها مع أعظم دولة في العالم وعلى أرضها هي خير دليل على ذلك.
إلّا أنّ هذه العمليّة التي نجحت حماس بإيلام إسرائيل بنتائجها، ولا سيّما بموضوع ضرب هيبتها، وكسر شوكة قوّتها، ستؤثّر نفسيًّا في ذلك العقل الجبروتي الذي ما فتئ يظهر نفسه بموقع المتفوّق. مقابل ذلك، ما حدث يبرّر أنّ المسمّى إرهابًا بنظر الغرب إنّما هو عمل مقاوماتي مشروع في ظلّ عجز الدول الكبرى، والعقل الداعي إلى حقّ الشعوب في تقرير مصيرها على تبرير شرعيّة وجوده.
لكن المؤسف في ذلك أنّ المصالح الدولية هي التي حرّكت هذه القضيّة، وليس النيّات الوطنيّة وحسب. فالمليارات الستّ التي تمّ منحها من قبل إدارة بايدن الديمقراطيّة لنظام الملالي، يبدو أنّ بواكيرها الأولى قد تجلّت في غزّة. وهذا ما سيشكّل ضربة قاضية الى الاستراتيجيّة الديمقراطيّة التي ظنّت لوهلة أولى أنّها تستطيع استيعاب العقل الفارسي بإغوائه، مغفلةً أنّ الحيّة لا يمكن إغواءها. فبذلك تكون الادارة الديمقراطيّة قد أهدت نصرًا ديبلوماسيًّا خارجيًّا لغريمتها الجمهوريّة لم تكن لتحلم به على أعتاب رئاسة جمهوريّة العالم. هل هذا قصور في الاستراتيجية أم تكتيك في اللعب على التناقضات الدولية لتحقيق المصالح البعيدة المدى؟
• سوء تقدير أم عدم اتّعاظ من التجارب؟
وسط حشرجة المعارك الدائرة، تتوالى النصائح الدوليّة لأذرع إيران بعدم الانجرار إلى أتّون حرب إقليميّة بين عقلين خطيرين، يُعرَفُ كيف بدأت لكن لا يمكن التكهّن كيف ستنتهي. ولكنّ ذلك يبقى رهن في الخطط الاستراتيجيّة للمحرّك الاقليمي لهذه الحرب، أي العقل الملالي. فبنهاية المطاف هذا العقل الذي ينتهج منهاج التقيّة في عمله لمواجهة عقل لا يعمل إلا وفاقًا للأسس العلميّة والمنطقيّة، قد أثبت تفوّق الدهاء والخديعة على الوضوح والرؤية. وذلك لأنّ هذا العقل قد نجح عبر سنين من توغّله في مراكز الأبحاث الأميركيّة بإقناع العقل الأميركي بأنّه يستطيع تأمين مصالحه الاستراتيجيّة، عبر ضبطه العقل المتخلّف والرابض برجعيّات التاريخ، والغارق في الجهل الإيديولوجي والتطرّف الديني الرافض لأي مختلِفٍ حضاريٍّ معه. هذه هي الخديعة الكبرى التي سيدفع العقل الأميركي ثمنها مرّة جديدة، كما دفع في ١١ أيلول منذ عقدين من الزمن. المريب في ذلك كلّه هو كيف أنّ هذا العقل الذي حكم العالم، منذ مجزرة بيرل هاربور، في ذلك السابع من كانون الأول من العام ١٩٤١، لم يتّعظ من تجربته المباشرة مع هذا العقل؟
ولفهم مجريات التطورات التي من الممكن أن تستجدّ في اللحظات القادمة، يجب الإدراك بأنّ العقل الفارسي لم يتخلّص يومًا من الحلم الإمبراطوري في حكم العالم. لذلك هو يتحكّم حتى الساعة، وبعد قرابة قرن من الزمن، بمصير القضيّة الأحوازيّة، ويمنع حقّ هذا الشعب بتقرير مصيره، عبر لعبه على التناقضات الدوليّة، منذ احتلالها في العام ١٩٢٥. لذلك، ما انفكّ يعمل على تكريس هذا الحلم التوسّعي؛ وهو لذلك حمل لواء الثورة الايديولوجيّة الصفويّة التي لا تشبه شيعة المنطقة بشيء، ونجح خلال أربعة عقود باختطاف هذه المجتمعات إلى سجنه الايديولوجي. وهنا بالذات تكمن خطورة هذا العقل. كما أنّه نجح بتحقيق الإطار الجغرافي لفكره هذا الممتدّ من طهران إلى بغداد فسوريا (منطقة القصير)، وصولاً إلى الحدود مع إسرائيل عبر منظمة حزب الله. وبذلك استعاد هذا العقل التحالف الحضاري التكتيّ الذي قام وقتذاك في زمن نبوخذ نصّر، ليسترجع الخدمات الحضاريّة التحرّريّة التي قدّمها للشعب اليهودي في مجزرة سبي بابل.
• محور الملالي يعترف بمرجعيّة ومسؤوليّة الأحداث
مقابل ذلك كلّه، العقل الحمساوي الذي نجح بالعمل على تذكية نظريّة الظالم والمظلوم، والعقل البشري لا يرفض هذه النظريّة، قد يحمل في طيّاته نوايا الانتقام الجهادي، لأنّه في نهاية المطاف، مهما أتت النتائج الكارثيّة فبالنسبة إليه النصر الإلهي حتميّ، لأنّه يعمل وفاقًا لمبدأ الإمامة الإلهيّة التي تبرّر بأنّ تكليفه هو مستمدّ من الله مباشرة؛ وهذا ما سبق وقاله أمين عام منظمة حزب الله في لبنان في إحدى خطاباته السياسيّة. وهذا ما سيحتّم انفجار شامل في المنطقة.
يبقى أنّ المترقّب والمتحيّز هو منظمة حزب الله في لبنان التي تعمل في غرفة العمليات المشترَكة، ومَن يعرف إذا ما كانت هذه الغرفة بقيادتها بعد الخبرات التكتيّة التي اكتسبتها في الميدان السوري؟ حيث لا يمكن استبعاد الزيارات الحمساويّة إلى ضاحية بيروت، في أيلول المنصرم، والاجتماع مع قيادات الحرس الثوري، والتي لم يألُ الاعلام الممانع أي جهد بتظهيرها، لكأنّه أرسل شيفرة لم يدركها قصور العقل اليهودي والأميركي؛ أو على الأقلّ ذلك العقل الديمقراطي الأميركي الذي يبحث دائمًا عن تغليب الخيار البراغماتي على الخيار المبدئي.
وبين أصوات صليل السيوف الحديديّة وصخب الطوفان الحمساوي، ما لا يمكن إغفاله أنّ منظمة حزب الله ستبقى في حالة الترقّب، وعلى أهبّة لإطلاق تلك المئة والخمسين ألفٍ من صواريخها لتحقّق بذلك نصرًا إلهيًّا جديدًا؛ في حال ضعفت حماس، أو تكبّدت المزيد من الخسائر. وهذا ما قد يؤدي إلى حرب شاملة، ليس فقط في غزة، ولكن في لبنان والمنطقة برمّتها. وعندها لا يمكن توقّع أن تبقى الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران على حياد.
• انقلاب مفاعيل التقيّة على متقنيها
ولعلّ ذلك قد يشكّل دافعًا إضافيًّا دوليًّا وإسرائيليًّا لتوجيه ضربة لإيران، بهدف إسقاط الملالي في عرينه. ولا سيّما بعد تصريحات قادة حماس بأنّ ما حصل هو نتيجة التخطيط والتمويل والدعم الايراني. إضافةً إلى التعاطف الدولي الذي تلقته إسرائيل، زد على ذلك توحّد الأصوات المعارِضَة في الداخل الاسرائيلي. وللخروج من هذا المأزق الذي باتت فيه إدارة بايدن، قد يتمّ ضرب النظام الايراني في الداخل ومن الداخل، لأن لن يكون هنالك أي مومنتوم دولي مؤاتٍ أكثر من ذلك. مع عدم احتمال استبعاد فرضيّة أن يكون العقل الديمقراطي الأميركي قد نجح بنصب هذه المكيدة للنظام الايراني مستخدِمًا سلاحه المفضّل، أي التقيّة؛ حيث منحه الأدوات الماديّة التي تمكّنه من تفعيل أذرعته الارهابيّة، ليعود وينقضّ عليه بضربة قاضية، قد تبدّل الرّؤية الجيواستراتيجيّة في المنطقة بالكامل، ولقرن من الزمن على الأقلّ.
وذلك ما تحقّق إلّا بجعل العقل الفارسي يعتقد بأنّه مُنِيَ بهزيمة جيو- إقتصاديّة بعد اتّفاقيّة بهارات الأخيرة؛ فتكون بذلك دفعته للتفكير بضرب هذه الاتّفاقيّة ظنًّا منه أنّه يستعيد طريق الحرير الوافد إليه من لدن التنين الأحمر. ليكون بذلك هذا النظام، على قصور رؤيته الاستراتيجيّة، قد وقع في الحفر التي كان يجتهم بإعدادها للمنطقة برمّتها، معتقدًا أنّه قد تفوّق على العقل الدولي خلال هذه العقود الأربعة.
وفي نهاية المطاف، سيتضرّر الاسرائيلي كثيرًا، معنويًّا ومادّيًّا واقتصاديًّا ونفسيًّا، على الأصعدة كلّها. لكنّ خسارة الفلسطينيّين تفوق خسارة الاسرائيليّين بسنين ضوئيّة. فضلاً عن أنّ المجتمع الدولي سيضع صيغة جديدة لتنظيم هذين الجارين اللدودين، كما يحدث في كلّ أمكنة الصراع في العالم؛ وكما حصل بين لبنان وإسرائيل بعد تموز ٢٠٠٦. وبذلك تتحقّق المصلحة الجيو-إقتصاديّة التي ستكون حيويّة لإسرائيل على حساب مصلحة الشعب الفلسطيني؛ كي لا نقول على حساب وجوديّته، فيتحوّل إلى مزيد من شتات، لن يعود له أي بقعة في العالم لتحضن وطنه. فيسقط حلم الوطن الفلسطيني، وتموت القضية العربية الأم إلى الأبد بسبب قصور العقل الاستراتيجي العربي، وتغليب الفكر المتطرف والارهابي على الفكر المقاوِم الحقيقي. ولن ينفع بعد ذلك البكاء وصريف الأسنان!
طوفان سيوف الأقصى الحديديّة